صدر كتاب "مناهج البحث العلمي - عرض مهني من منظور حضاري" عن مؤسسة الثقافة الجامعية بالإسكندرية، من تأليف الدكتور ماهر الجعبري، وهو أستاذ مشارك في هندسة تكنولوجيا البيئة في جامعة بوليتكنك فلسطين، وله عشرات الأبحاث العلمية المنشورة في المجلات والمؤتمرات العلمية المحكمة. وكان الكتاب الجديد من ضمن معروضات المعرض الدولي للكتاب الذي عقد في القاهرة.
والكتاب موجه للدارسين والباحثين والمفكرين، وكما يقول المؤلف "وجاء هذا الكتاب كمداخلة مفصلية في هذا المجال، تُقدّم البحث العلمي بعرض جديد يتميّز عن كل ما سبقه، إذ يجمع بين ما يحتاجه الباحث والدارس من مهارات البحث العلمي (على حقيقته)، فيما يرسّخ ما لا غنى عنه لكل باحث مفكّر من تبحّر في الجوانب الثقافية الضرورية ذات الصلة بحياة الإنسان، لتخريج علماء يكونون أصحاب قضايا في الحياة".
وبيّن المؤلف أنه استند في إعداد هذا الكتاب إلى خبرته العلمية البحثية التي تراكمت عبر انخراطه المباشر في المختبرات العلمية والأبحاث التكنولوجية طيلة فترة زادت عمّا يقرب من العقدين من الزمان، إضافة إلى انخراطه في الأعمال والأبحاث التطويرية في التعليم والصناعة في العقد الأخير.
والكتاب جاء فيما يقرب من ثلاث مائة صفحة وتضمن خمسة فصول عالجت الخلفيات الفكرية والفلسفية لمنهجية البحث العلمي، مربوطة بالأبعاد الحضارية والثقافية، في الفصل الأول، ومن ثم عرض الكتاب المبادئ المنهجية في البحث العلمي في الفصل الثاني، وعرض الفصل الثالث أسس ومهارات مراجعة المنشورات السابقة واستخدام مصادر المعلومات، مع التركيز على الجوانب الفنية والأدوات الحديثة للبحث الالكتروني في قواعد البيانات العلميةـ أما الفصل الرابع فقد ناقش المشكلة البحثية والتخطيط للبحث العلمي، وختم الكتاب بالفصل الخامس الذي استعرض أساليب وأدوات البحث العلمي، بطريقة نقدية، حيث ناقش جدلية اعتبار الأسلوب التاريخي كمنهج علمي. وتميّز الكتاب في هذا الجانب بعرض أسلوب الأبحاث العلمية النظرية المستندة للنمذجة الرياضية للظواهر الطبيعية، مما لا تغطيه غالبية الكتب في هذا المجال.
وتفصّل مقدمة الكتاب أهمية التمييز بين التفكير الإنساني العام والتفكير العلمي وبين العلوم المادية والثقافات الحضارية، حيث كتب المؤلف: "البحث العلمي في المجالات المادية هو أساس لتمدّن الإنسان، ويسهم في التنمية الاقتصادية وفي تحقيق رفاهية الشعوب، ولا شك أنه طريق يوصل للتقدم المادي، ولكن عدداً من المفكرين والمنظّرين -في هذا المجال- اعتبروه طريقاً نحو الحضارة والارتقاء الفكري والثقافي، وذلك نتيجة الخلط بين العلم المادي والمعرفة الإنسانية عموماً، ونتيجة الخلط بين التفكير الإنساني والتفكير العلمي".
واعتبر الجعبري أن "هذا الفصل والتمييز بين ما هو "علمي" وما هو "ثقافي-إنساني" يؤدي إلى توضيح أفضل لمناهج البحث العلمي، وإلى تكوين عقلية علمية سليمة ومنتجة، ويُجنّب التشتت في مسارات لمناهج وأساليب وأدوات اعتُبرت "علمية" لكنها في الحقيقة خارج سياق العلم (التجريبي). ثم إنّ هذا التمييز يُسهم في الحفاظ على ثقافة الأمة دون اختراقها واختلاطها بالثقافة الغربية من مدخل البحث العلمي. وهنا لا بد من التقرير أنّ تمييز ما هو علمي عمّا هو "غير علمي" لا يعني انتقاصاً مما ليس علمياً، بل إن كثيراً من الجوانب الفكرية "غير العلمية" أرقى وأرفع شأننا من العلم".
وتحدث المؤلف عن خلفية المؤلفين السابقين وتأثرهم بالعقلية الغربية ونقل المناهج وتعميمها دون نظرة ثقافية فاحصة، فقال: "وقد ترسّخت مناهج البحث العلمي بين الدارسين والباحثين في ظل حضارة غربية مهيمنة عالمياً، فاختلطت مفاهيم الغرب الخاصة بحضارتهم مع نتائج البحث العلمي عندهم، وصارت منهجيات البحث العلمي وعقليات الباحثين عند المسلمين متأثرة بتلك الثقافة الغربية، وتابعة لها، واختلطت الثقافات الخاصة بالعلوم العامة".
وانتقد المؤلف منهج التأليف السابق في هذا المجال، ولكنه رسّخ منهج الانتقاد العلمي الموضوعي بالقول "هذا الكتاب ينتقد ولا ينتقص: ينتقد ما جاء في العديد من الكتب السابقة، ولكنه لا ينتقص من أقدار من كتبوها". وذلك في معرض الإشارة إلى ثغرة لدى كثير من المؤلفين السابقين، ممن هم من خلفيات أكاديمية في مجالات "العلوم الإنسانية"، فهم تحدثوا عن واقع لم يعيشوه، فأدى قيامهم بإسقاط خبراتهم المعرفية في مجالات "العلوم الإنسانية" على مجالات العلوم الطبيعية إلى عدم بلورة الجوانب المهنية التي تلزم الباحث التجريبي".
واستطرد في تبيان ثغرات التأليف السابق بالقول "ولقد كتب العديد من المؤلفين حول أساليب البحث العلمي وأدواته ومنهجياته: خلط كثير منهم بين المعارف الثقافية والعلوم الطبيعية، واستمدوا منهجيات طرحها غربيّون -كما هي- وعمموها في مختلف المجالات ("العلمية" وغير العلمية)، دون الالتفات إلى عدم انطباقها على مجالات الثقافة، ودون النظر إلى الخصوصية الثقافية والحضارية للأمة الإسلامية، أو دون جهود كافية لتفنيدها وتصنيفها حسب المجالات الملائمة وغير الملائمة". لذلك يقول المؤلف "ظهرت عدة كتابات وكتب منهجية، بعضها مستنسخ عن غربيّين نجحوا في البحث العلمي، ولكنهم فشلوا في صنع الحضارة الإنسانية التي تنقذ البشرية".
ومن ثم بيّن أن ممن كتب في هذا المجال "من لم يحسموا فهم عملية التفكير أو العملية العقلية، وتعاملوا مع الطريقة العلمية على أنها هي التفكير الإنساني عموما، ومن ثم اختلطت عندهم الأسس وتداخلت المجالات، ولم يستطيعوا أن يميّزوا بين الطريقة العلمية لدى العلماء خصوصاً، وبين الطريقة العقلية لدى الإنسان عموماً، بل صوّر بعضهم أن الطريقة العلمية هي أساس تفكير كل إنسان، وأنها تنطبق في كل مجالات الحياة، فتشتتوا وتناقضوا ووصلوا إلى نتائج خاطئة أدّت إلى تشويه ثقافي.
ويأتي هذا الكتاب ليعيد تمييز التفكير الإنساني (العام) عن التفكير العلمي (المتخصص)". واستند المؤلف في عرضه لهذا الجانب إلى كتاب التفكير الذي ألفه المفكر تقي الدين النبهاني رحمه الله، وانفرد فيه بتعريف طريقة التفكير، بما لم يسبقه لذلك التعريف أحد.
دائرة العلاقات العامة